فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}.
وإنما خص إجابة المضطر لأمرين:
أحدهما: لأن رغبته أقوى وسؤاله أخضع.
الثاني: لأن إجابته أعم وأعظم لأنها تتضمن كشف بلوى وإسداء نعمى.
{وَيَكْشِفُ السُّوءَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون عن المضطر بإجابته.
الثاني: عمن تولاه ألاَّ ينزل به.
وفي {السُّوءَ} وجهان:
أحدهما: الضر.
الثاني: الجور، قاله الكلبي.
{وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: خلفًا من بعد خلف، قاله قتادة.
الثاني: أولادكم خلفاء منكم، حكاه النقاش.
الثالث: خلفاء من الكفار ينزلون أرضهم وطاعة الله بعد كفرهم، قاله الكلبي.
{قَلِيلًا مَّا تَذَكَرُونَ} أي ما أقل تذكركم لنعم الله عليكم!
قوله: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرَّ وَالْبَحْرِ} فيه وجهان:
أحدهما: يرشدكم من مسالك البر والبحر.
الثاني: يخلصكم من أهوال البر والبحر، قاله السدي.
وفي {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وجهان:
أحدهما: أن البر الأرض والبحر الماء.
الثاني: أن البر بادية الأعراب والبحر الأمصار والقرى، قاله الضحاك.
{وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: مبشرة، قاله ابن عباس وتأويل من قرأ بالباء.
الثاني: منشرة، قاله السدي وهو تأويل من قرأ بالنون.
الثالث: ملقحات، قاله يحيى بن سلام.
{بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} وهو المطر في قول الجميع.
{أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي عما أشرك المشركون به من الأوثان.
قوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ}.
وفي صفة علمهم بهذه الصفة قولان:
أحدهما: أنها صفة ذم فعلى هذا في معناه أربعة أوجه:
أحدها: غاب عليهم، قاله ابن عباس.
الثاني: لم يدرك علمهم، قاله ابن محيصن.
الثالث: اضمحل علمهم، قاله الحسن.
الرابع: ضل علمهم وهو معنى قول قتادة. فهذا تأويل من زعم أنها صفة ذم.
والقول الثاني: أنها صفة حمد لعلمهم وإن كانوا مذمومين فعلى هذا في معناه ثلاثة أوجه:
أحدها: أدرك علمُهم، قاله مجاهد.
الثاني: اجتمع علمهم، قاله السدي.
الثالث: تلاحق علمهم، قاله ابن شجرة.
{فِي شَكٍّ مِّنْهَا} يعني من الآخرة فمن جعل ما تقدم صفة ذمٍ لعلمهم جعل نقصان علمهم في الدنيا فلذلك أفضى بهم إلى الشك في الآخرة، ومن جعل ذلك صفة حمد لعلمهم جعل كمال علمهم في الآخرة فلم يمنع ذلك أن يكونوا في الدنيا على شك في الآخرة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}.
وقفهم في هذه الآية على المعاني التي تبين لكل عاقل أنه لا مدخل لصنم ولا لوثن فيها وهي عبر ونعم، فالحجة قائمة بها من الوجهين، وقوله تعالى: {يجيب المضطر} معناه بشرط إن شاء على المعتقد في الإجابة، لكن {المضطر} لا يجيبه متى أجيب إلا الله عز وجل، و{السوء} عام في كل ضر يكشفه الله تعالى عن عباده، وقرأ الحسن {ويجعلكم} بياء على صيغة المستقبل ورويت عنه بنون، وكل قرن خليف للذي قبله.
وقرأ جمهور القراء {تذكرون} بالتاء على المخاطبة، وقرأ أبو عمرو وحده والحسن والأعمش بالياء على الغيب، و{الظلمات} عام لظلمة الليل التي هي الحقيقة في اللغة ولظلمة الجهل والضلال والخوف التي هي مجازات وتشبيهات وهذا كقول الشاعر:
تجلت عمايات الرجال عن الصبا

وكما تقول أظلم الأمر وأنار، وقد تقدم اختلاف القراء في قوله: {نشرًا}، وقرأ الحسن وغيره، {يشركون} بالياء على الغيبة، وقرأ الجمهور {تشركون} على المخاطبة، وبدء الخلق اختراعه وإيجاده، و{الخلق} هنا المخلوق من جميع الأشياء لكن المقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة، والإعادة البعث من القبور ويحتمل أن يريد ب {الخلق} مصدر خلق يخلق ويكون في {يبدأ} {ويعيد} استعارة للإتقان والإحسان كما تقول فلان يبدي ويعيد في أمر كذا وكذا إذا كان يتقنه، والرزق {من السماء} بالمطر ومن {الأرض} بالنبات، هذا مشهور ما يحسه البشر، وكم لله من لطف خفي، ثم أمر عز وجل نبيه أن يوقفهم على أن {الغيب} مما انفرد الله بعلمه ولذلك سمي غيبًا لغيبه عن المخلوقين، ويروى أن هذه الآية من قولهم {قل لا يعلم}، إنما نزلت لأن الكفار سألوا وألحوا عن وقت القيامة التي يعدهم محمد فنزلت هذه الآية فيها التسليم لله تعالى وترك التحديد، فأعلم عز وجل أنه لا يعلم وقت الساعة سواه فجاء بلفظ يعم الساعة وغيرها، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون {أيان يبعثون} وبهذه الآية احتجت عائشة رضي الله عنها على قولها ومن زعم أن محمدًا يعلم الغيب فقد أعظم الفرية، والمكتوبة في قوله تعالى: {إلا الله} بدل من {من}، وقرأ جمهور الناس {أيان} بفتح الهمزة، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {إيان} بكسرها وهما لغتان، وقرأ جمهور القراء {بل ادارك} أصله تدارك أدغمت التاء في الدال بعد أن أبدلت ثم احتيج إلى ألف الوصل، وقرأ أبي بن كعب فيما روي عنه {تدارك} وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {بل ادرك} على وزن افتعل وهي بمعنى تفاعل، وقرأ سليمان بن يسار وعطاء بن يسار {بلَ ادّرك} بفتح اللام ولا همزة تشديد الدال دون ألف، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل مكة، {بل أدرك}، وقرأ مجاهد {أم أدرك} بدل {بل} وفي مصحف أبي بن كعب {أم تدارك علمهم} وقرأ ابن عباس {بل أدرك} وقرأ ابن عباس أيضًا {بل آدارك} بهمزة ومدة على جهة الإستفهام، وقرأ ابن محيصن {بل آدرك} على الاستفهام ونسبها أبو عمرو الداني إلى ابن عباس والحسن.
فأما قراءة الاستفهام فهي على معنى الهزء بالكفر والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم أي أعلموا أمر الآخرة وأدركها علمهم؟ وأما القراءات المتقدمة فتحتمل معنيين أحدهما {بل أدرك علمهم} أي تناهى كما تقول أدرك النبات وغيره وكما تقول هذا ما أدرك علمي من كذا وكذا فمعناه قد تتابع وتناهى علمهم بالآخرة إلى أن لا يعرفوا لها مقدارًا فيؤمنوا، وإنما لهم ظنون كاذبة أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتًا وكذلك ادرك وتدارك وسواها وإن جملت هذه القراءة معنى التوقيف والإستفهام ساغ وجاء إنكارًا لأن أدركوا شيئًا نافعًا، والمعنى الثاني بل أدرك بمعنى يدرك أي إنهم في الآخرة يدرك علمهم وقت القيامة، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها وأما في الدنيا فلا. وهذا هو تأويل ابن عباس ونحى إليه الزجاج، فقوله: {في الآخرة} على هذا التأويل ظرف، وعلى التأويل الأول {في} بمعنى الباء، والعلم قد يتعدى بحرف الجر تقول علمي يزيد كذا ومنه قول الشاعر: الطويل:
وعلمي بإسدام المياه

البيت، ثم وصفهم عز وجل بأنهم {في شك منها} ثم أردف بصفة هي أبلغ من الشك وهي العمى بالجملة عن أمر الآخرة، و{عمون} أصله عميون كحذرون وغيره. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أمَّنْ يجيب المُضْطَرَّ} وهو المكروب المجهود؛ {ويَكْشِفُ السُّوء} يعني الضُّرَّ {ويجعلُكم خُلَفَاءَ الأرض} أي: يُهلك قرنًا وينشيء آخرين، و{تَذَكَّرون} بمعنى تتَّعظون.
وقرأها أبو عمرو بالياء، والباقون بالتاء.
{أمَّنْ يَهديكم} أي: يُرشدكم إِلى مقاصدكم إِذا سافرتم {في ظُلُمات البرِّ والبحر} وقد بيَّنَّاها في [الأنعام: 63، 97] وشرحنا ما يليها من الكلمات فيما مضى [الأعراف: 57، ويونس: 4] إِلى قوله: {وما يَشْعُرونَ} يعني مَنْ في السموات والأرض {أيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي: متى يُبْعَثون بعد موتهم.
قوله تعالى: {بل أَدْرَكَ عِلْمُهم في الآخرة} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {بل أَدْرَكَ} قال مجاهد: {بل} بمعنى أم والمعنى: لم يُدْرِكْ عِلْمُهم، وقال الفراء: المعنى: هل أَدرك عِلْمُهم عِلْم الآخرة؟ فعلى هذا يكون المعنى: إِنهم لا يقفون في الدنيا على حقيقة العِلْم بالآخرة.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {بل ادّارَكَ} على معنى: بل تدارك، أي: تتابع وتلاحق، فأُدغمت التاء في الدال، ثم في معناها قولان:
أحدهما: بل تكامل عِلْمهم يوم القيامة لأنهم مبعوثون، قاله الزجاج.
قال ابن عباس: ما جهلوه في الدُّنيا، عَلِموه في الآخرة.
والثاني: بل تدارك ظَنُّهم وحَدْسهم في الحكم على الآخرة، فتارة يقولون: إِنها كائنة، وتارة يقولون: لا تكون، قاله ابن قتيبة.
وروى أبو بكر عن عاصم: {بل ادّرَكَ} على وزن افتعل من أدركت.
قوله تعالى: {بل هم في شَكِّ منها} أي: بل هم اليوم في شك من القيامة {بل هم منها عَمُونَ} قال ابن قتيبة: أي: من عِلْمِها. اهـ.

.قال القرطبي:

{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} قال ابن عباس: هو ذو الضرورة المجهود.
وقال السديّ: الذي لا حول له ولا قوّة.
وقال ذون النون: هو الذي قطع العلائق عما دون الله.
وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري: هو المفلس.
وقال سهل بن عبد الله: هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيًا لم يكن له وسيلة من طاعة قدّمها.
وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر؛ قال: إذًا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
قال الشاعر:
وإنِّي لأدعُو الله والأمرُ ضَيِّقٌ ** عليّ فما ينفَكُّ أن يَتفرّجَا

ورُبَّ أخٍ سُدَّتْ عليه وُجوهُهُ ** أصاب لَها لَما دعا اللَّهَ مَخْرَجَا

الثانية: وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء المضطر: «اللهم رحمتك أرجو فلا تَكِلْني إلى نفسي طَرْفة عين وأصلح لي شأني كلَّه لا إله إلا أنت».
الثالثة: ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه؛ والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه؛ وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمّة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر؛ كما قال تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22] وقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم.
وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت: 65] فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه.
وفي الحديث: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده» ذكره صاحب الشهاب؛ وهو حديث صحيح.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن: «واتَّق دعوةَ المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب» وفي كتاب الشهاب: «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام فيقول الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» وهو صحيح أيضًا.
وخرج الآجريِّ من حديث أبي ذَرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإني لا أردها ولو كانت من فم كافر» فيجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه، وإجابة لإخلاصه وإن كان كافرًا، وكذلك إن كان فاجرًا في دينه؛ ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده، فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته.
وفسر إجابة دعوة المظلوم بالنصرة على ظالمه بما شاء سبحانه من قهر له، أو اقتصاص منه، أو تسليط ظالم آخر عليه يقهره كما قال عز وجل: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضًا} [الأنعام: 129] وأكد سرعة إجابتها بقوله: «تُحمل على الغمام» ومعناه والله أعلم أن الله عز وجل يوكِّل ملائكته بتلقي دعوة المظلوم وبحملها على الغمام، فيعرجوا بها إلى السماء، والسماء قبلة الدعاء ليراها الملائكة كلهم، فيظهر منه معاونة المظلوم، وشفاعة منهم له في إجابة دعوته، رحمة له.
وفي هذا تحذير من الظلم جملة، لما فيه من سخط الله ومعصيته ومخالفة أمره؛ حيث قال على لسان نبيه في صحيح مسلم وغيره: «يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّمًا فلا تظالموا» الحديث.
فالمظلوم مضطر، ويقرب منه المسافر؛ لأنه منقطع عن الأهل والوطن، منفرد عن الصديق والحميم، لا يسكن قلبه إلى مسعد ولا معين لغربته، فتصدق ضرورته إلى المولى، فيخلص إليه في اللجاء، وهو المجيب للمضطر إذا دعاه، وكذلك دعوة الوالد على ولده، لا تصدر منه مع ما يعلم من حنَّته عليه وشفقته، إلا عند تكامل عجزه عنه، وصدق ضرورته؛ وإياسه عن بِرِّ ولده، مع وجود أذيته، فيسرع الحق إلى إجابته.